واحتج هؤلاء بوجه خامس وهو أن الرواة الذين سمعوا هذه الأخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم ما كتبوها عن لفظ الرسول بل سمعوا شيئاً في مجلس، ثم رووا تلك الأشياء بعد عشرين سنة أو أكثر، ومن سمع شيئاً في مجلس واحد مرة واحدة، ثم رواه بعد العشرين والثلاثين لا يمكنه رواية تلك الألفاظ بأعيانها وهذا كالمعلوم بالضرورة إلى آخر كلامه، وهذه الشبهة هي من جنس شبهات المستشرقين، ولهذا يجب أن نصفي ونغربل وننقي التراث الموجود لدينا قبل أن نتحدث عن المستشرقين ونرد عليهم وأمثالهم، فكيف نرد على المستشرقين ثم نجد أئمة الأشاعرة يقولون هذا الكلام؟ إن ذلك يوجب الرد عليهم أولاً، فما يقوله جولد زيهر وأمثاله من المستشرقين هو نفس قول الأشاعرة وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلم سمعه الصحابة ولم يكونوا يكتبون إلا بعد عشرين سنة فربما يحدث الخطأ ويضعف الحفظ، وعليه فالحديث لا يقبل ولا يعتمد، فيردون بذلك السنة كلها، والرد عليه والحمد لله من أسهل ما يكون، وهو كما يلي:
أولاً: إنه قد ورد أن من الصحابة من كان يكتب الحديث، وهذا يطول شرحه، لكن وقوع الكتابة من بعض الصحابة أمر معلوم.
ثانياً: لنفرض أنهم لم يكونوا يكتبون فإن ميزة هذه الأمة أنها أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، فمن ميزتها قوة الحفظ ودقته، فالله تبارك وتعالى أعطاها من الحفظ ما كانت تحفظ به المعلقات في الجاهلية، فكيف بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب وصحابته أحفظ الناس وأتقى الناس؟ ولا عقل كعقلهم، ولا فكر كفكرهم، ولا أمانة كأمانتهم، ولا إخلاص كإخلاصهم ولا تلقي كتلقيهم، فإنهم كانوا ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نظراً لا يشبهه نظر أي أحد؛ لأنهم كانوا يرون أن نظرتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هي مصدر الخير، والنور، والإيمان، والمعرفة، واليقين، والهدى، والنجاة، والفلاح فيحفظون القول كما يحفظ الواحد منا أعظم كلمة تهمه، كما أن أحدنا لو جلس مع من يقول له كلاماً خطيراً جداً في قضية تهمه فإنه يستمع منصتاً ويقول: قال لي فلان كذا وكذا بالنص للاهتمام بنص العبارة، والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا أكثر الناس حرصاً على طلب الحق واهتماماً به مما نراه مهماً لنا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على أن يوضح لهم، فكان يخاطبهم بلغتهم وبلهجتهم، وربما كان النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يعيد الحديث المرة والمرتين والثلاث حتى يفهم عنه الكلام ويحفظ، وكان صلى الله عليه وسلم لا يعجل ولا يسرع في الكلام بل كان يتأنى فيه، وهذه كلها قرائن عظيمة على ضبط الحديث، بل ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه اختار هذا الجيل الذي لا نظير له، واختاره من الشباب المتقنين الحافظين، وأعطاهم هذه الصفات وهذه المؤهلات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاشوا بعده عشرات السنين ينقلون عنه هذا العلم، ولو أنهم رضي الله تعالى عنهم كانوا كباراً لكان موتهم قريباً من موته صلى الله عليه وسلم فلم ينقل العلم إلى أكبر قدر من الأجيال، لكننا نجد منهم من عاش إلى حوالي المائة وإن كان هذا قليلاً لكن كثيراً من الصحابة عاشوا إلى ما بعد الخمسين من هجرة الرسول صلى الله عليه سلم أو إلى الستين، فكان هذا الجيل بعد خمسين سنة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يقول للناس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا فحفظت الأمة ذلك حفظاً عظيماً ولله الحمد، فهذه القرائن الكثيرة مجتمعة لا يمكن أن تكون إلا بعناية ربانية وتدبير إلهي في اختيار هذا الجيل المطهر الخالص الذين هم حواريي وأصحاب أفضل رسل الله تبارك وتعالى، فلا شك أن الله تعالى اختارهم واصطفاهم، فنقلوا هذا الدين بكل أمانة وبكل دقة.
إذاً: فالطعن في السنن هو كلام المستشرقين وأشباههم، وقول الرازي بأن الظاهر أنه نسي منه شيئاً كثيراً أو تشوش عليه نظم الكلام وتركيبه .. إلخ لا يعني شيئاً في أرض الواقع، إنما هو مجرد احتمالات، ولو كان هذا الاحتمال حقاً أو وارداً كما قلنا في حق أحد منهم فهو فيما يتعلق بذات الله أبعد؛ لأن الصحابة رضي الله تعالى عرف عنهم عنايتهم بما يتعلق بالله وبأخبار الغيب أشد، والحاجة إليها أعظم، ولذلك لا يأتي ولا يرد مثل هذا الاحتمال فيها.
قال الرازي في خاتمة كلامه -وهنا الشاهد-: (واعلم أن هذا الباب كثير الكلام -نعم والله إنه كثير، ولكنه باطل- وأن القدر الذي أوردناه كاف في بيان أنه لا يجوز التمسك في أصل الدين بخبر الآحاد والله أعلم).
وهذه خاتمة كلامه التي قرر فيها بعد هذه الخمسة الأوجه أنها كافية في نظره بأن أصول الدين والعقيدة لا يؤخذ فيها بخبر الآحاد، وهذا هو القانون الكلي أو القاعدة الكلية التي وضعها في هذا الباب وبني عليها غيره ممن قال بكلامه كصاحب المواقف وغيره، وهو كلام في غاية التهافت والبطلان، وقد ظهر من الرد عليهم أن الاحتجاج باختلاف الصحابة في الرواية ورد بعضهم على بعض، أو طلب التثبت والاحتجاج لا عبرة به، وأضرب مثالاً على ذلك بإمام التراويح في رمضان حيث يقرأ فيها القرآن وخلفه حافظ آخر يرد عليه أحياناً، فهذا دليل على أن كلاً منهما حافظ، فإذا أخطأ الإمام في آية أو آيتين فهذا أيضاً دليل على أنه حافظ، فعندما يأتي من يقول: هذا الإمام لا يؤخذ عنه ولا آية، لأن فلاناً قد رد عليه في إحدى الصلوات فكلامه غير صحيح، ونقول له: يا أخي! إن كون فلان رد عليه تلك الليلة ليس دليلاً على أنه ليس حافظاً، بل هو دليل على أنه حافظ، فكلام الرازي عكس الحقيقة والواقع، فالطعن من أهل الأهواء والبدع وأهل الضلال على المحدثين لا يقبل؛ لأنهم أمام المحدثين كمثل العامي الذي لا يحفظ شيئاً من القرآن ولكنه يرد على الإمام، فعلى الإمام أن يستمر في قراءته ولا يأبه به؛ لأنه غير حافظ، فكلام الرازي أشد وأكثر بطلاناً وتهافتاً من رد العامي على الإمام؛ لأن العامي ربما يحفظ الآية أو الحديث أما الرازي وأمثاله، فإن شبهتهم ومصيبتهم مركبة من أمرين: من جهلهم بالحديث ومن هذه الشبهات الباطلة التي تعلموها في رد الحديث وإن كان صحيحاً، بل عندهم استعداد أن يردوا الحديث ولو كان صحيحاً، وفي نفس الوقت هم جاهلون بالحديث وبطرق تصحيحه وتضعيفه، فيمكن أن يردوا أي شيء؛ لأن جهلهم مركب، وأما العامي فجهله جهل بسيط.
إذاً: سماعك لهذا الإمام وهو يقرأ كتاب الله كاملاً، وقد قرأ ستة آلاف وستمائة آية وأكثر دليل على أنه حافظ ولو وجدته أخطأ في عشرين أو مائة آية فهذه شهادة له بأنه حافظ متقن مقارنة بالقرآن كاملاً، وهو قد يخطئ ولا شك في ذلك، ولكن كونه أخطأ لا يعني أن كل القراء أيضاً يخطئون، فإن بعض القراء لا يؤخذ عليهم في الشهر كله خطأ واحد والحمد لله، وهذا لا شك أنه دليل على التفرد والتميز في الحفظ وليس دليلاً على الطعن في الحفاظ الآخرين، بل هو دليل على تفرد وتميز هذا الذي لم يخطئ، وفي هذا رد على هذه الشبهة الباطلة، والحمد لله رب العالمين.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.